Rap & bada2a / البذاءة في الراب الجزائري : كيف و لماذا؟ lyrics

by

Genius Arabia


بِقدر ما يعكس الراب شخصيّة صاحبه ومدى عمق أعماله وتأثيرها، فإنه يشير كذلك إلى ميزة ينفرد بها أصحاب القلم من كتّاب وشعراء عن غيرهم، ألا و هي فرادة القاموس اللغوي أي تنوّع الألفاظ المستعمَلة، ومن هنا نجد الرابر الموهوب الذي يتلاعب بالقوافي و المعاني، وفي الجهة الأخرى نجد الرابر المحدود الذي إن عَدَدْنا كلماته المستخدمة فلن تتعدّى المائة دون شكّ. وفي هذا السياق، يمكن ملاحظة ظاهرة غريبة انتشرت بسرعة في الأعوام الأخيرة رغم أنها كانت نادرة و دخيلة على الراب الجزائري في بداياته، هي استعمال "الفجاجة و الابتذال"، سواء بإفراط أو باعتدال

و لم أكن لِأَلحظ هذا إلا عن طريق الصدفة، و ذلك لأنني قد غيّرتُ وجهتي الموسيقية في الأعوام القليلة الماضية، وحاولت استكشاف عوالم و طوابع أخرى بعيدة عن الراب و صخبه (خاصة الجزائري) كالفنون اليابانية و الطرب الشرقي الأصيل ،و كان الفيديو الذي نشره رضا (أحد روّاد فرقة "أنتيك" العتيقة) سنة 2012 هو الذي رماني من جديد في غياهب الراب الجزائري، و كم كان لقاءنا مليئا بالمفاجآت !
رؤية رضا لأول مرة على موقع اليوتوب الذي احتكره لطفي بسلامه و سُوالِه، يُعَدّ حدثا بعينه، و لا بدّ أن يكون من وراءه شيء مهمّ و خطير، و فِعلا فقد ظهر ريدزو متقلّب المزاج ، و هاجم بشدّة أشباه الرابرز واصفا إياهم بـ "الجايحين"، و صرّح بحكم خبرته أن ما يفعلوه من خلال الكلاش لا يخدم الراب بتاتا، على العكس بل هو يهدم ما بقي من الصّرح الذي شيّده العمالقة من طينة حامة ، م.ب.س ، أنتيك و غيرهم
و أشار أيضا إلى قضية الكلاشات المفبركة في فرنسا، التي يكون غرضها "البوز" و بيع الألبومات، أما في الجزائر فلا فائدة مادية تُجنى لغياب صناعة موسيقية ملموسة، كل ما يربحه الرابر هو العيب و احتقار الجمهور الواعي

بعد بحث بسيط تَبَيَّنَ لي أن سبب خروج ريدزو عن صمته كان بالدرجة الأولى مشكلة بين فرقة شقيقه "م 16" و "أفريكا جنغل" ، لكننيأردت أن أتفحّص عن قرب طبيعة باقي الكلاشات و مضامينها التي طبعت سنتي 2012 / 2013، و جولة سريعة على اليوتوب كانت كافية، حيث تربّعَ على المنصّة الشرفيّة الخاصّة بصنف الكلاش "الخشين" كل من "عيسى ، سامديكس ، فيان-سو و كامي فينومان" ، و لا أخفي انبهاري بالمستوى التقني للأول الذي سمعُتُ عنه الكثير لكنني لم أجرأ قطّ على اكتشافه، إلاّ أنّني سرعان ما اندهشت بالكمّ الهائل من الألفاظ النابية ، و خلتُ للحظة أنّ هذا الراب نابع من إحدى الضواحي السوداء لفرنسا أو أمريكا ، لكن فيديو "المقبرة" أعادني من جديد إلى الواقع و صدمني بشدّة ، كيف تجرّؤوا و فعلوها ؟ لقد اعتدوا بسبق الإصرار و الترصد على حرمة هذا المكان الذي يرقد فيه موتانا ، و دنّسوه بالسباب و السّكر علنا ! و لفت انتباهي شيء آخر من حيث الأداء : تلك الفتاة التي أدت اللازمة أكثر من مرة مع عيسى ، كيف انحدرنا من الجوهرة "هجيرة" إلى مثل هذه الأجناس ؟ للأسف لقد ولّى زمن "الميكرو يبريزي السكات" ضد "الطوكس" و حل مكانه عهد "المافيا باغية السوكسي" ضد "الطوكسيكومانات" !!!

لكن يبدو أن هذا الراب المحقون بالفحش لم يقتصر على الكلاشات فقط ، بل تعدّاه و انتقلت العدوى إلى بقية الرابرز ، و صار الأمر مألوفا لدى الجماهير من عنابة إلى مغنية ! وهناك عاملان أساسيان وفرا الأرضية الخصبة لذلك هما : غياب الرقابة لأن أغلب الأعمال لا تصدر ضمن ألبومات تباع في الأسواق ، ثانيا الاستعمال الواسع للإنترت و مواقع التواصل الاجتماعي في الترويج السهل و الإشهار المجاني

و لتحليل أسباب انتشار مثل هذا الراب عندنا ، يجب تعريف البذاءة أولا ، فاصطلاحا البذاءة هي التعبير عن الأمور المستقبحة بالعبارات الصريحة ، و قال الغزالي أن الباعث عليها سواء إيذاء الناس أو الاعتياد الحاصل من مخالطة الفسّاق. و اعتمادا على هذا الأساس يمكن تقسيم الرابرز البذيئين إلى صنفين : الأول كما ذَكَرَه إمامنا هدفهم إيذاء الناس و الإعتداء عليهم لفظيا فتراهم يقذفون الأمهات و يسبّون النظام في كل موضع سواء كانوا على حق أو باطل ، أما الثاني فَهُمْ الذين اعتادوا على الكلام الفاحش ، نظرا لطبيعة المجتمع المنحل الذي ترعرعوا فيه ، فعن طريق الراب يحاولون نقل صورة حيّة قدر الإمكان عن الواقع المرّ مستخدمين اللغة المباشرة الجريئة ، خاصّة إذا كان الموضوع وعرا و شائكا ، كانتهاكات الشرطة و غياب المساواة الاجتماعية و العدالة

أظن أنّ الصنف الأول قد رُفِعَ عنه القلم ، إلاّ أنني أرى أنه لا يجب السكوت على حماقاتهم لِمَا لها من التأثير السّلبي على أطفالنا الصّغار ، لكن للأسف لم يتحرّك أي برلماني أو رجل قانون عندما هتك أحدهم حرمة مكان مقدّس كما رأينا في "فضيحة المقبرة" ، لكنهم سارعوا إلى تعقب العنوان الالكتروني لمواطن غيور صوّر انتهاكات الشرطة في غرداية و زجوا به في السجن بتهمة المساس بأمن الدولة !! هذا هو النفاق بعينه ، من الحرام أن تفضح قذارة النظام و مساوئه ، لكن غض الطرف حلال عندما يتعلق الأمر بانحلال المجتمع أخلاقيا طالما يوجد رُوّاد من طراز الشيخ شمسو و الراقي بلحمر نقتدي بهم اليوم بعدما كنا في زمن غير بعيد نفخر بالشيخ بن باديس و بن نبي !!
عودة إلى عيسى ، و رغم أنه قد تاب كما قال و طلب من محبيه أن يحذفوا أغانيه التي حمّلوها على مواقع التواصل الاجتماعي ، لكن من الصعب تحقيق ذلك خاصّة أن عصر السّرعة و الإنترنت لا يرحم ، لذلك قبل نشرَ أية مادة (مكتوبة أو مرئية) يجب أن يتذكّر مالكُها أن الملايين سوف يتلقفونها في لمح البصر و حينئذ لن يكون له عليها حق ! و قبل المرور إلى الصنف الثاني أودّ أن أعرّجَ فقط على دور الإعلام في "التطبيع" مع هذا الفن المنحطّ ، و رأينا أن الوجه الآخر في الكلاشات "كامي" قد شارك في عدة حصص تلفزيونية منها تلك على قناة الوئام ، دزاير تيفي و القناة الوطنية الرابعة ! قد يتساءل البعض ما سرّ هذه البرومو التي لم تُتَح للكثير من الرابرز الموهوبين و القدماء؟ الإجابة أن هؤلاء المُبرمجين ماكرون ! فإذا أرادوا أن يحطّموا فنّا معينا و ينالوا من مبادئه تجاهلوا روّاده و قاموا بالإشهار للسّفهاء و لمن هم أقلّ شأنا ، مثلما يفعلون مع الراي . هم يعرفون جيدا مستوى "كامي" : رابر محدود أعماله هاوية بالبذاءة أو بدونها ، يقتات من التقليد الغربي ، و هذا هو الصنف المثالي الذي يبحثون عنه . و حقيقة خجلت من كوني متتبعا للرّاب عند مشاهدة هذه الحصص بالأخص الحصّة الأخيرة التي لم يكن مغزاها ثقافيا هادفا بقدر ما كان يحمل رسالة خفية خبيثة ، في الواقع هم يقولون للمشاهد العادي : انظر هذا هو مستوى الرّاب في الجزائر ! هذه هي موسيقى الشارع المستوردة من الغرب ! انظر بماذا يهتمّ الفنان الشاب اليوم ! و في الأخير يختتمون بالفيديو كليب العالمي الذي حيّرَ "هايب ويليامز" و أدهشَ المختصين بتقنيّته الفريدة في صبّ الماء على رأس صديقنا الظاهرة ! هذا هو انطباعي أنا الإنسان الذي كبرت مع الراب ، فما بالكم بربّ الأسرة الذي يجهله و يحاول أن يكتشفه من خلال هذه الحصص ليعرف ماذا يستمع أبناءه في أَيْبُوداتهم ؟!

الصنف الثاني يحتاج إلى الكثير من الوقت للنقاش ، و لكن سوف أحاول تقديم شرح مبسّط لمختلف وجهات النظر الممكنة
أول حجّة يمكن أن يتذرّع بها المدافعون عن هذا الصنف هي أنهم يحاولون مطابقة الواقع الخبيث مع المفردات المناسبة له ، لكن هل هم حقّا مُجبَرون على ذلك؟ هل إذا استعملوا كلمات محترمة فَقَدَ واقعهم مصداقيته؟ ماذا يفعلون بالكناية و باقي الصورالبيانية؟ هل حسبوا أنها وُجدت عبثا؟ طبعا لا ! الدارجة الجزائرية خليط غني متكون من الفرنسية ، التركية ، الأمازيغية و لغة الضاد ، و كل لفظ جريء يمكن استبداله بالعشرات من المرادفات الحسنة في كل لغة ، لذلك أظن أنّ الضعف المفرداتي هو السبب الرئيسي وراء اعتمادهم الوصف البذيء ، فكم رأينا من عمل نظيف و يروي باحتراف كبير قصة حياة مأساوية و تعيسة ، السبب الثاني أنّ الابتذال متأصّل فيهم فكما يقول أحد الأطباء النفسانيين : "إن الحياة اليومية إذا كانت تحمل الإهانة بمختلف صورها و في معظم مجالاتها ، فسوف يتعوّد الإنسان على المهانة (السّبّ و الشّتم) ضمن تسليمه لمسلّمات الحياة حتّى يستطيع التعايش معها" ، و ما عليّ إلا أن أضيف و أذكّر أن الرسول الكريم رغم كل المضايقات التي تعرّض لها أثناء دعوته لم يكن طعّانا و لا لعّانا و لا فاحشا و لا بذيئا ، لذلك ضبط النّفس واجب و تربيتها على مكارم الأخلاق من الأولويات ، فإحفظ لسانك يا فنّان ، لا يلدغنّك إنه ثعبان !

ثانيا يقولون أن الراب أصله من الشارع و يجب أن يبقى وفيّا لكلّ ما فيه من إيجابيات و سلبيات . لكنّنا لسنا في أمريكا أو فرنسا ، و شارعهم ليس كشارعنا ، و القصبة ليست الكوينز بريدج أو فيتري ! و الأهم من كلّ هذا أن ثقافاتنا متباينة ، فالشتم في أمريكا أمر شبه طبيعي ، و لو درسنا تعابيرهم اليومية لوجدنا أن أغلبها مكوّن من كلمات نابية ، و هم لا يخجلون من ذلك بتاتا ، بل يصدّروها ضمن أفلامهم العائلية و أغانيهم إلى العالم كلّه ، فمن الطبيعي إذا أن يكون الراب لديهم بنفس الابتذال أو أشد .أمّا عندنا في الجزائر (أو باقي الدول العربية) فالأمر مختلف لأن المجتمع لا يزال محافظا رغم عينات استثنائية هنا و هناك ، و لعلّ سفيان أحد روّاد فرقة "حامّة" السابقة يجيب عنّي بطريقة ممتازة في هذا الحوار : "نحن ولاد فاميليا و لسنا لقيطين" ، وحتّى الفرقة الفلسطينية الشهيرة "دام" ترفع شعارا جميلا : "غير تقليدي لكن غير تقليد" أي أنّه صحيح الراب ثقافة مستوردة من الغرب إلّا أنها تخضع للمقاييس و المعايير الأخلاقية للمجتمع المُستقبِل ، و كل تقليد سيّء سببه قلة الأصالة و ضعف في الشخصيّة الوطنية


ثالثا : حرّية التّعبير ، و هي الذريعة الأكثر رواجا التي نسمعها في مجالات الفن المتعدّدة. أنا ضدّ التقييد الثقافي و أقول أن كل إنسان له الحقّ في التّعبير بالطّريقة التّي يريدها ، لكن أنوّه إلى أمر مهمّ و هو أنّ حرّيته تنتهي عندما تبدأ حرّية الغير !و هذه الأخيرة يقيّدها المجتمع الذي يعيش فيه ، و هذا المجتمع تحكمه قوانين و أعراف يخضع لها الفرد ، إن خرج عليها فهو في عداد "المنحرفين و المنبوذين" ، و أضيف أيضا أنّ قلّة الإحترام لم تحرّر يوما النّفس من الكبت ، على العكس فهي تغمسها في مستنقعات الرذيلة
و لعلّ ما يزعجني أكثر ، هو اتساع طبقة الجمهور الذي صار يَعْجَب و يُصَفِّق للأعمال البذيئة ، و لا أتحدث هنا عن السينما و الغناء فحسب بل أخص الأدب العربي المعاصر ، فبعد أن كسر محمد شكري الطابو و فتح الباب على مصراعيه بخبزه الحافي منتصف القرن الماضي ، ولج الكثير من الكتاب عالم اللغة الجريئة و قالوا كلاما لا ينشر و لا يصرح به ، بل أن بعضهم على شاكلة الأسواني و سلوى النعيمي عُرٍفوا بذلك و ما زادتهم الرقابة إلا إشهارا مجانيا و مزيدا من الجمهور المتعطّش لاستكشاف المحظور

رابعا ، قد يُعيب عَليّ البعض اهتمامي بمثل هؤلاء الرابرز ، و قد يقول لي : "إذا لم يعجبك شيء فلا تستمع إليه و كفى" ، فِعْلا لا يعجبني هذا النوع من الراب لكن عندي الحق في إبداء رأيي كأي متتبّع ، وحتّى فيما يخصّ الراب الفرنسي و الأمريكي فأنا شديد الإنتقاء ، فرقة عريقة مثل الـ "وو تانج كلان" مثلا لم أعد أنظر إليها بنفس الطريقة كما كنت أفعل 10 سنوات من قبل ، ليس كل ما يُصنِّفه الأمريكان في خانة الكلاسيك و الأسطوري يُحتّم عليّ فعل الشيء نفسه ، لأن ثقافاتنا متباينة كما قلت سابقا ، ولأن كل إنسان يمرّ بمنعرج هامّ في حياته هو مرحلة "النضج الفكري" يُلزمه بمراجعة أذواقه و ألوانه بما يتناسب مع مبادئه و قِيَمه . و من أجل كتابة هذا المقال قمت بمجهود استكشافي لا بأس به و أسمعت أذناي المسكينتان بما فيه الكفاية حتى أحيطه بالمعلومات اللازمة و تقصّيت الحقائق شخصيا دون الاعتماد على آراء الغير ، قد لا أكون مصيبا على طول الخطّ إلا أنني واثق من شيء ألا و هو أن الراب البذيء صار اليوم في الواجهة بشكل ملفت ، و قد ألقى بظلاله على الراب المحترم الذي عشقناه صغارا و كبرنا في كنفه

في الأخير ، إذا كنّا قادرين على تقديم فنّ راقي و نظيف كما فعلنا في الماضي و كما يفعل اليوم بعض رابرز الجيل الجديد ، فلماذا الإصرار على "التقدّم إلى الخلف " و تقليد الغرب حتّى في بذاءة الألفاظ؟ الراب صار حبيس المواقع الافتراضية و إذا أردنا إخراجه إلى الواقع فلا بدّ من تحسين صورته أولا ، و أودّ أن أستلهم من إحدى مقولات كريم و أصف بها واقع الراب المرير بين الأمس و اليوم و عذرا إذا كانت الصورة جارحة : "الراب الجزائري أنجب رجالا في قمّة الأدب ، و اليوم تبنّى لقطاء في قلّة الأدب !"

عسى أن يكون هذا المقال البسيط قد أزال الغبار على موضوع حسّاس ، إن لم نسارع و نعالجه اليوم فبعد عشر سنوات قد يندكّ الراب الجزائري ستة أقدام تحت الأرض و سيصعب وقتذاك انتشاله ! فَلْنُسَاهِم - جمهورا و ناشطين - في تصفية الراب من الشّوائب ، و لنستخلص منه معدنا خاما نفيسا ، يبقى كنزا للأجيال القادمة

A B C D E F G H I J K L M N O P Q R S T U V W X Y Z #
Copyright © 2012 - 2021 BeeLyrics.Net